لم تكن مهمة إقناع المجتمع الدولي بضرورة فتح قناة تواصل مُباشر مع الشعب السوري سهلة، فسوريا تخضع لأجندات سياسية بالمستوى القتالي، وما تخشاه أطراف الصراع هو استفادة أحد الخصمين من مُلتقى المانحين في العاصمة الكويت.
وعلى الرُغم من نجاح الكويتيين في خلق تواصل دولي مع اللاجئين السوريين للخارج والنازحين في الداخل عبر مُلتقيين للمانحين، فما زال الروس والصينيون يُمانعون توزيع مساعدات المانحين بحجة “الوصول غير الآمن”.
إذاً لنتفق؛ أن هذه الحجة قد تكون تحدياً مباشراً وصريحاً أمام الملتقى الثالث للمانحين في الكويت، ولكن ما حدث في جنوب إفريقيا بخصوص هذا الشأن كان تحدياً غير مُباشر، نظراً لتأثيره بشكل أو بآخر على موقف جنوب إفريقيا تجاه المساعدات الإنسانية للشعب السوري. فما هو موقف العاصمة بريتوريا؟، وكيف يُمكن الاستفادة منه؟.
حرصت دولة الكويت على وضع موازين غير سياسية شديدة التأثر وبشكل مُباشر بالانتهاكات الحاصلة ضد المجتمع المدني السوري، ولا شك أن الموازين الكويتية هي التي جمعت المانحين الدوليين في عاصمتها، بل وأجبرت طرفي النزاع السوري على قبول الدور الكويتي، الذي أصبح محوراً فاعلاً في الأزمة السورية، وهو المحور الإنساني الذي تأسس على الحيادية والشفافية. وهذا لا يعني أن دولة الكويت وقفت أمام مطالب الشعب السوري، بل رفضت علانية مجازر النظام السوري ضد شعبه.
وعلى الرغم من إستراتيجية المانحين في الكويت في وضع آليات واضحة لوصول المساعدات الإنسانية للشعب السوري، ودون تدخل طرفي الصراع، إلا أن مجموعة (بريكس) أصدرت بيانها عام (2013) حول ضرورة تحقيق الوصول الآمن، واعتبرت روسيا والصين أن توصيل المساعدات عبر النظام السوري هو آلية الوصول الآمن. حيث تخشى مجموعة بريكس من استغلال المساعدات الإنسانية لتغيير النظام السوري.
ولتوضيح موقف جنوب إفريقيا من الشأن الإنساني في سوريا، هو ليس للمُقارنة مع الفارق، بل لإبراز آليات الحراك الروسي الصيني في وضع معوقات أمام العمل الإنساني خارج إطار المانحين في الكويت، وما حدث في جنوب إفريقيا هو نموذج ينطبق على الكثير من الدول الإفريقية التي تنظر إلى القضية السورية بالمنظور الإنساني فقط.
ما هو صريح من حكومة جنوب إفريقيا بأن نظام بشار الأسد هو النظام الشرعي للدولة السورية، وأن الحوار والانتخابات الديموقراطية هو الأنسب لحل الأزمة السورية، وموقف حكومة بريتوريا هو المُتفق عليه بين حلفاء بريكس.
ولكن بريتوريا لم تعترض على دور الهيئات الخيرية (الإسلامية) الجنوب إفريقية بتحقيق التواصل المُباشر مع اللاجئين السوريين عبر جمع الأموال من شعب جنوب إفريقيا. وقد حققت إنجازات كبيرة، حيث أثنت حكومة اليمن على مبادرة جنوب إفريقيا لإغاثة (25) ألف لاجئ سوري على الأراضي اليمنية، غير تشييدها مستشفى لكل الاحتياجات العلاجية في مدينة إدلب السورية.
كما استطاعت هيئات جنوب إفريقيا توثيق الأحداث بالصوت والصورة، ونقلها لوسائل الإعلام الجنوب إفريقية، ونتاج ذلك هو بدء توتر العلاقة بين مسلمي جنوب إفريقيا وإيران، كما أن الأقلية المُسلمة قادرة على مُمارسة ضغوطها على القرار السياسي الجنوب إفريقي تجاه ما يحدث في سوريا.
وحكومة بريتوريا غير قادرة على إعاقة دور هذه المُنظمات في سوريا، ويعود ذلك لقوتها الإدارية والمالية، وعدم مُخالفتها للقوانين المحلية، غير أن جنوب إفريقيا لا ترغب بنقل توجهاتها الخارجية إلى الداخل، فتحالفها مع الروس والصينيين لن يرسم قوانيناً على شعب جنوب إفريقيا في ظل دولة المؤسسات والمُستقلة عن العمل السياسي الخارجي.
ويبدو أن منظمة (هيومان واتش) التمست من تحركات هيئات جنوب إفريقيا وإنجازاتها على الساحة السورية أن حكومة بريتوريا غير خاضعة للقرار الروسي الصيني بشكل مُطلق، حيث ناشدت جنوب إفريقيا للتعاون مع الهند والبرازيل، والتحدث بصوت واحد للضغط على الروس والصينيين بقبول دور الأمم المتحدة لتوصيل المُساعدات الإنسانية إلى الشعب السوري بشكل مُباشر.
ولا شك أن محاولات عديدة جَهدت لوقف دور هيئات جنوب إفريقيا في توصيل المُساعدات للشعب السوري، وأستبعد أن يكون هناك دور لحكومة جنوب إفريقيا في ذلك، ولكن تصريحاً صدر عن دبلوماسي عربي أمام الإعلام الجنوب إفريقي كان بمثابة شُبهة أوقعت هيئات جنوب إفريقيا الخيرية أمام مأزق يصعُب الخروج منه، فقد اتهم هذه الهيئات بتصديرها للإرهاب لكلٍ من العراق وسوريا، وأن هناك مجموعة من مُسلمي جنوب إفريقيا التحقوا بتنظيم الدولة، تحت ذريعة إيصال المُساعدات الإنسانية.
وكان لهذا التصريح الصدى الأوسع على الساحة السياسية في جنوب إفريقيا، فقد انتفضت بعض الأحزاب المُعارضة كالحزب (المسيحي الديموقراطي) والذي طالب الحكومة بالإسراع في التحقيقات حول هذا الشأن.
كما أن تعهد الحكومة بتحقيق موسع حول هذه التصريحات هو دلالة توتر بين الطرفين، حيث لا شك أن جنوب إفريقيا سوف تُعيد دراسة أحوال مسلمي البلاد، وخاصة فيما يتعلق بالُمساعدات الإنسانية، والتواصل الحر مع العالم العربي والإسلامي.
والشاهد هنا؛ أن منظومة بريكس غير متوافقة كلياً حول الوضع السوري، وخاصة فيما يتعلق بالجانب الإنساني، وأن الدور الخيري الجنوب إفريقي على الساحة السورية وبشكل مباشر، هو شاهد على عدم قناعة حكومة بريتوريا بالحجج الروسية الصينية حول قضية الوصول الآمن.
كما أن الهيئات الخيرية والبحثية في جنوب إفريقيا هي مركزية لبعض القرارات لتأثيرها على الساحة الإعلامية والسياسية على مستوى القارة الإفريقية، لكنها وقعت بفخ تهمة تصدير الإرهاب إلى العراق وسوريا لنزع دورها الإنساني مع منظمة (هيومان واتش) العالمية.
وخلاصة القول هنا؛ أنه لا بأس أن تعمل دولة الكويت على توسيع مُلتقى المانحين من أجل سوريا، وأن لا يقتصر المُلتقى على مجموعة بعينها في كل عام، والمطلوب بعد المانحين الثالث هو التواصل بشكل مُباشر مع أدوات الضغط في جنوب إفريقيا من خلال التواصل مع الهيئات الخيرية ودعم برامجها الإنسانية والإعلامية، وفرضها على ساحة الإعلام المحلي، ومنها إلى الهند والبرازيل، فهذه الدول تُساند روسيا والصين في عرقلة وصول المُساعدات الإنسانية للشعب السوري، وربما بعد التواصل المُباشر وإطلاعهم على الحقائق يكون ذلك سبباً في تغيير الكثير من المواقف، وخاصة في الشأن الإنساني على الساحة السورية. وما هو جدير بذكره أن أدوات الضغط في جنوب إفريقيا أرهقت إسرائيل من خلال حراك المؤسسات والنقابات العمَالية لمقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية، والتي أثارت جدلاً إعلامياً وسياسياً وأكاديمياً على نطاق واسع في جنوب إفريقيا، حيث لن تعجز عن إرباك الموقف الروسي وإجبار جنوب إفريقيا على دعم توصيل المُساعدات الإنسانية بشكل مُباشر حتى ولو كان على حساب تغيير النظام السوري.
بقلم/ د. بلال الصبّاح ؛ كاتب سياسي عربي مقيم بجمهورية جنوب إفريقيا، وباحث في الشؤون الإفريقية