قد لا يعير المرء كبير اهتمام عالمَ الرموز الثقافية حين يكون داخل حاضنة الثقافة القومية. فالتفاعل بينه وبين ذلك العالم يأتي عفويا ومنسابا بشكل لا واع. ولكن كلّما افتقر المهاجر إلى ثقافة المأتى، ولا سيّما في الغرب، إلا وداهمه الذوبان وكان عرضة للاندثار المبكر، ولربما تشتدّ الوطأة مع نزول المهاجر بالغرب في سن يافعة حين لا يزال عوده طريا غضّاً ولم تكتمل مفردات قاموسه اللغوي ولم تختزن ذاكرته ما يكفي من الصور والذكريات.
ما زلت أتساءل كيف استطاع ذلك الصبي الفلسطيني العابر في الرحيل من اللدّ إلى دمشق إلى روما أن ينجو من ذلك الاندثار المتربّص، ويغدو مرجعا وعلما في التواصل الثقافي العربي الإيطالي؟
أقصد بالقول الفلسطيني وسيم دهمش، فهو بحق ثالث ثلاثة، رفقة الراحليْن الأردني عيسى الناعوري والليبي خليفة محمد التلّيسي ممن أغوتهم لغة دانتي وسحرهم أدبها. شاءت الظروف أن تمتزج الثقافة العربية بالثقافة الإيطالية مع الثلاثي كما لم تمتزج مع من سبقهم ممن حطّ بهم الرحال في هذه البقاع. فهناك كلفٌ دفينٌ باللغتين والثقافتين يجمع الثلاثي، يبلغ أحيانا درجة العشق والتجلي.
إغواء الثقافات المبكّر
فقد جاء وسيم إلى إيطاليا عام 1966 ولم يكن قد أتمّ الثامن عشر ربيعا. حضرَ من دمشق حيث وُلِد عام 1948 لأبوين فلسطينيين مهجّرين كانا قد انتزعا لتوّهما من مدينة اللد. ولعل من الأسباب القوية التي دفعت وسيم للمجيء إلى إيطاليا شغف أستاذ التاريخ في مدرسته الثانوية بعصر النهضة وبثّه هذا الحب في نفوس طلابه، وقد يكون أحد الأسباب أبعد من ذلك قِدمًا، حيث أن وسيما أصغر إخوته الذين كانوا يسافرون عبر برّ الطليان في رحلاتهم إلى مواطن دراستهم، وقد كان السفر بالطائرة أيام طفولة ذاك الصبي الفلسطيني مكلفا للغاية ولم تكن ظروف عائلته بعيد النكبة تسمح بغير الباخرة كي يسافروا ليعملوا ويعيلوا أنفسهم كي يدرسوا. من هؤلاء الإخوة كانت تصل وسيم، أثناء مرورهم بالموانئ الإيطالية، بطاقات جميلة أثارت فضوله. وما أن أتم الصبي المرحلة الثانوية حتى اشتدت به رغبة السفر، وكلُّ فتى حالم توّاق إلى الرحيل، ودَفَعَه فضوله إلى السؤال عن إمكانية الدراسة في إيطاليا. صادف في تلك الأيام وجود ملحق ثقافي في السفارة الإيطالية في دمشق سهّل له تقديم طلب الالتحاق بجامعة إيطالية وهكذا جاء إلى هذه البلاد، وما زال فيها منذ زهاء نصف قرن، نذرَ فيها حياته للاشتغال بالثقافة، شيء يذكر بإيمان فرانز فانون بدربه الإنساني، الذي قاده من المارتنيك إلى الجزائر عونا للمقهورين والمعذَّبين.
عرفتُ وسيم عن قرب حين جمعنا عمل التدريس سويّا في جامعة روما، ليترك بعدها عاصمة إيطاليا ويرحل باتجاه جامعة كالياري في سردينيا، تلك الجزيرة التي يحسبها الزائر قطعة من بلاد المغرب.
لكن وسيما كنت أعرفه قبل ذلك العهد من خلال نشاطه الثقافي الدؤوب، ولا سيّما بكل ما يتصل بفلسطين فهو أحد سفرائها المثقفين في إيطاليا، ولعله اختار الثقافة إيمانا بسموّ هذا العالم الرمزي وحتى لا تتحول فلسطين إلى خطاب سياسي فجّ يحجب عمقها الحضاري.
فحين يحادثك وسيم تعجب لهذا الستيني الذي أتى إلى إيطاليا صبيا، كيف لا يزال يحدّثك بعربية فصيحة ممزوجة بلهجة شامية سلسة، دون ثنائية لغوية أو شوائب متسربة إلى لسانه، وقد مرّ على مجيئه إلى ديار الطليان ما يربو على نصف قرن. واللافت أن الفلسطيني حين يهاجر خارج بلاد العرب يحمل عربيته في لسانه وفلسطين بين جوانحه، لعل ذلك الكلف الدفين ما دفع إدوارد سعيد ليوصي بتلاوة قداس جنازته بالعربية، فالمثقف المهاجر تتشكل لديه حميمية مع لغة الضاد حتى وإن لم يمتلك ناصيتها وطغى لسان المقام الجديد على لسان الآباء والأجداد. وبناء على مقارنات أجريتها بين شرائح المهاجرين العرب، تبين لي أن الفلسطيني ثم يليه المصري، الأكثر إصرارا في توريث العربية إلى الأبناء في المهجر.
اللغات تذعن لمحبّيها
وبعيدا عن تلك الخصوصية في الحفاظ على اللسان العربي في المهجر، لا شك أن وسيم دهمش ظاهرة لغوية ذات وجهين عربي وإيطالي في الإمساك بناصية اللغتين. وقد لمست ذلك من غيرة كتّاب إيطاليين من الرجل، ولا سيما حين ينقل نصوصا عربية إلى الإيطالية بلغة راقية قلّ من يرتقي إلى مصافها من أبناء لغة دانتي. فقد كان معظم ما نقله من العربية إلى الإيطالية شعرا، وما فلسطين لديه سوى قصائد من عيون الشعر العربي سابحة في لغة دانتي.
فعلاقته بالإيطالية حميمية شأنها شأن العربية، حيث يذوب التباعد بين اللسانين لتنصهر المعاني في إنتاج نص راق، مثمر أعلاه ومغدق أسفله. هكذا جاء نص “مجرّد 2 فقط“ لإبراهيم نصر الله المترجم إلى الإيطالية، إليسو 2004، وكذلك نص “موظّف عادي جدا“ المنقول إلى العربية لفنتشنزو تشيرامي بيروت 2009. لكن اللغة مع وسيم تبلغ ذروة صفائها في ترجمة الشعر وهو ما تجلى أساسا في نص “الشعر في المغرب“ المنقول إلى الإيطالية.
صحيح أن فلسطين أيقونة وسيم، لكنه يَعُدّ الشعر العربي عامة، الصوت المدوي في ثقافة مستنفرة، والصوت الساحر والآسر الذي ما زال بحوزة العرب، لذلك تجددهمش يحرص على نقل بيت الشعر العربي الجميل. وهو يترجم يزداد قربا من فلسطين، ليس بحثا عن نسيان غربته بل لمنح فلسطين ذلك البعد الكوني الذي غفل عنه العربي في الزمن الحديث.
اختار وسيم الساحة الثقافية الإيطالية بناءً على كلفٍ لازمه منذ الصبى، ثم ترسخ مع توالي السنين حتى بات نابعا من يقين بضرورة إعمار هذه الساحة بحراك ثقافي عربي هي في أمس الحاجة إليه، نشاط ثقافي يدعم قضايا العرب ويشرح عمق حضارة تبدو واقعة تحت سطوة السياسي وحدة الصراعات التي ما أن تهدأ حتى تتفجر من جديد. فأقصر السبل لبلوغ التواصل مع الغربي هو طريق الثقافة بيد أن تلك الطريق تبدو مسدودة أو مقطوعة، فالمبادرات محدودة وقليلة جدا بين الجانبين.
ولا يولي العرب كبير عناية للاستثمار في الشأن الثقافي في الغرب، ربما هذا يلوح جليا، من خلال ما يجري في أكبر جامعات أوروبا، جامعة روما “لاسابيينسا”، فالأنشطة التي تحوم حول الدراسات العربية يغيب العرب منها تقريبا، فليس هناك مشاركات من أي بلد عربي إلا ما ندر، في حين تتعدد المبادرات من جانب الصينيين واليابانيين والكوريين بشكل لافت، والدارسون والطلاب الإيطاليون المولعون بالعربية وحضارتها يشعرون بالغُبن والحسرة حين يرون الرعاية التي تلفّ لغات الشرق الأقصى مقارنة بما يحوم حول اللغة العربية والدراسات العربية. لعل هذا النقص للمشاركة العربية هو ما دفع وسيم دهمش للتعويل الذاتي على ترويج الثقافة العربية، في الجامعة وخارجها، فمئات الطلاب الذي أعدوا رسائل تخرجهم مع وسيم عن شعراء وأدباء عرب من المغرب والمشرق والخليج، كان محفزا وملهما لهم.
كان مؤمنا ولا يزال بأن رسالة التعليم هي رسالة إنسانية ورسالة نضالية. يوما سألته: كثيرا ما يطرق مسامعنا، إن المثقف العربي في إيطاليا عرضة للموت السريري نظرا لفتور الحراك الثقافي بين الضفتين، رغم ذلك يعدّ كلانا إيطاليا دار قرار لا منطقة عبور خاطف. فرد مبتهجا: لكلٍّ رسالته ونحن رسالتنا في الحرف العربي الذي نبلّغه للطلاب الإيطاليين وهل ثمة بهاء يفوق ذلك البهاء.
سقي شجرة الشعر
لم يفل من عزم وسيم الحضور السلبي للعرب في إيطاليا، وهو ما تصنعه السياسة ويذكيه الإعلام، فتلك الصورة السلبية لا يصنعها الإعلام المغرض فحسب بل يصنعها العرب عن أنفسهم بغيابهم وصراعاتهم الداخلية التي تبدو عبثية. وترميم تلك الصورة المشروخة يحتاج إلى عمل الشاعر والأديب والفنان. من هذا الباب آمن وسيم بقدرة القصيدة والكلمة على الحضور رغم صورة القبح الطاغي. وقد كان إصراره على نقل الشعر العربي إلى الإيطالية إيمانا بأن قوة العرب الأدبية تتلخص في شعرهم. ولعل شعرهم الحامل لهمّ إنساني هو شعر فلسطين الأبية لمنزعه الكوسموبوليتي القادر على مخاطبة ذائقة العالم.
إذ ثمة بعدان يتنازعان شخص وسيم، المحلية والعالمية، لم يلغ الغرب من ذاته هاجس فلسطين وعمقها الإنساني الحاضر بشكل دائم لديه، وقد تحولت إلى قضية إنسانية منزوعة من ارتباطاتها القومية، وفي الأثناء لم يتخل وسيم يوما عن ارتباطه بالمكان بتراث إيطاليا المركب وبمنزعه الإنساني الباحث عن معانقة العالم عبر بوابة المتوسط المشرعة.
نصف قرن في إيطاليا، ولعلها أطول فترة قضاها مثقف عربي في حضن الثقافة الإيطالية. قد يتصور البعض أنها ثقيلة ومرهقة لكنها مع وسيم مرت خاطفة في سقي شجرة الشعر، وترويج الحرف العربي، وإنشاد موال فلسطين الشجي. حوّل أثناءها وسيم القدس ويافا ونابلس وحيفا واللد إلى أيقونات خارج الزمان والمكان، وإلى قصائد عابرة للغات، حتى غدت فلسطين برمتها قصيدة جميلة مكتوبة بلغة دانتي.
بقلم / الدكتور عزالدين عناية أستاذ من تونس بجامعة روما