بحث : المصالحة الوطنية من أجل المصلحة الوطنية
بتاريخ 5 يوليو, 2013 في 08:47 مساءً | مصنفة في بحوث | لا تعليقات

 

 

تمر ليبيا في هذه الفترة بمرحلة التحول من الثورة إلى الدولة ، و التي نتمنى أن تكون على أسس صحيحة بعيدا عن العواطف و المجاملات  لنصل إلى دولة القانون والمؤسسات التي تحترم فيها الحريات وحقوق الإنسان ، ولعل من أولويات هذه المرحلة إيجاد الاتفاق والتعاون بين أبناء الشعب الليبي بمختلف أطيافه ، ولا يتم ذلك إلا بعد إزالة رواسب الصراع الذي حدث إبان التحرير ، وذلك عن طريق السعي نحو المصالحة الوطنية وتنازل المنتصرين قبل المهزومين من اجل مصلحة الوطن .

 إن عدالة المنتصر يجب أن تكون عادلةً لئلا نكتفي بإحلال شكل من الطغيان محل شكل آخر ، حين تضع ثورةٌ عنيفةٌ حدّاً لنظامٍ قديم دام اثنين وأربعين عاماً، لا بدّ للتفسّخ من أن يضرب أطنابه. غير أنّ من واجب النظام الجديد أن يتوصّل إلى إستراتيجية تضمن إقامة العدل بطريقة منصفة ومتوازنة.

لقد سبق للفيلسوف الإنكليزي جون لوك أن ألقى الضوء على عاقبة تولّي البشر أمر القانون بأيديهم، وذلك حين كتب عن «تلك الشرور، التي تنبع بالضرورة من لعب البشر دور القضاة في قضاياهم الخاصة»، الأمر الذي يعني «تضخيم الخطأ الواقع، إن وُجد، وإحلال الثأر والانتقام محلّ القصاص العادل».

ويحظى التطبيق الشرعي لجميع القوانين بأهمية أساسية في ليبيا، نظراً إلى الثقافة القبلية السائدة والأهواء الإقليمية. ويتحتم على الليبيين، الذين مارسوا إرادتهم الحرة واختاروا طريق الديمقراطية، أن يرفضوا التطرف والتعصب والدوغمائية.

وقد أكد ديننا وقرآننا على أهمية الصلح وجعله من علامات الإيمان يقول سبحانه وتعالى : ” وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين”الأنفال آية 1. وقوله : ” فمن عفا وأصلح فأجره على الله ” الشورى الآية 40  وقوله: ” وَلَمَن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ” الشورى الآية 43.

ولا نجد أعظم مما سطره رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في كل جانب من جوانب الحياة، ومنها مسألة العفو والمصالحة. حين دخل إلى مكة عزيزا متواضعا، والتف حوله مشركو قريش خائفين فقال لهم كلمته العظيمة الرائعة: (لا تثريب عليكم ، اذهبوا فأنتم الطلقاء ) فماذا حصل بعد تلك المقولة التي ما آلفتها آذان العرب آنذاك؟ لقد دخل مشركو العرب إلى الإسلام جماعات وأفرادا ، حصل هذا لأن النفوس البشرية جبلت في الأعم الغالب على قبول الإحسان وتقدير العفو والصفح.

وقد حصل ما يشبه هذا من سكان سمرقند حين دخلوا الإسلام بعدما رأوا ما لم تألفه عيونهم من خروج للفاتحين وقد كانوا قادرين على البقاء، وقبل ذلك ما لمسوه من ضروب رحمتهم وصلاحهم، وكانوا قادرين على القتل والإفساد، فكيف يكون الحال إن جسدنا الرحمة والصفح فيما يجوز الصفح فيه ونحن جميعا مسلمون ليبيون  ، ومما يؤثر عن علي رضى الله عنه قوله : (أولى الناس  بالعفو أقدرهم على العفو) ، والعرب يقولون: (لا سؤود مع انتقام ).

يجب إن نكون على ثقة من أن روحية المصالحة والتسامح تستجيب لنداءات الضمير والفطرة الإنسانية السليمة، فالصلح سيد الأحكام، ولنجنح إلى السلم، ولننبذ العنف وروح الانتقام ، مثل هذه المصالحة هي التي ترسخ الوحدة الوطنية والتآخي بين أبناء الشعب الليبي الأصيل .

مفهوم المصالحة الوطنية

نلاحظ في مجتمعنا الليبي كثيرا من التشويش والتحريف لمفهوم المصالحة الوطنية ، حيث يفسرها الكثير على أنها العفو عن المجرمين الذين ارتكبوا جرائمهم إبان التحرير ، وبذلك يعتقدون انه سلب لحقوق من ثار ضد النظام السابق في فترة الثورة المجيدة ، متناسين استمرار الظلم في ليبيا حتى هذه اللحظة .

المصالحة الوطنية تعني العملية المنهجية التي تتبناها دولة ما لتحقيق حالة التوافق بين المتخاصمين والسعي للوصول للمصلحة المشتركة بينهم ، بغض النظر عن فتره زمنية بعينها و دون التحديد لفئة محدده من الشعب ،  بمعني آخر هي عملية التوسط بين المتخاصمين لحل المشاكل والاختلاف عن طريق التراضي والمسالمة تجنبا لحدوث الصراع والبغضاء والتشاحن بينهم ، والحقيقة أن المصالحة هنا لا تعني بالضروري محاولة إعادة الأشياء إلى ما كانت عليه وإنما محاولة إيجاد الحل الوسط والتعامل مع المشاكل والنزاعات بالأساليب السلمية وقبول الأمر الواقع وإصلاح ما يمكن إصلاحه .

بالإضافة إلى ذلك إن المصالحة هي السعي المشترك نحو إلغاء عوائق الماضي و استمراريتها السياسية  و التشريعية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و تصحيح ما ترتب عنها من غبن و مآسي و أخطاء و انتهاكات و جرائم جسيمة .

 إن المصالحة كمشروع مجتمعي طويل الأمد تعني إنجاز توافق وطني بين مختلف مكونات الإطار الحضاري للمجتمع حول خطة شمولية و متكاملة ، محددة ، و دقيقة ، تسترشد بالمبادئ الأساسية المستخلصة من تجارب فض النزاعات بالطرق الهادئة و تخضع لمضمون القانون الدولي و إجراءاته الملزمة و الآمرة للدولة و حكوماتها المتعاقبة .

 

أهمية المصالحة الوطنية

1.      تسوية العديد من النزاعات بالطرق الودية .

2.      تقديم التعويضات الملائمة للمواطنين الذين عانوا من إصابة أو أذى أو ضرر نتيجة للنظام السابق  أو بوقوع الظلم عليهم في النظام الحالي .

3.      ترجيع الممتلكات والعقارات التي سلبت إبان النظام السابق أو الحالي إلي مُلاكها الأصليين .

4.      إتاحة الفرصة لكل من أجرم في حق الشعب للاعتذار وطلب العفو من شعبنا الكريم.

5.      التأكيد علي ثقافة العفو والصفح عند المقدرة وتنمية روح الإخاء والتعاون بين المواطنين لتحقيق الصالح العام.

6.      ترسيخ ثقافة السلام والأمن والبناء والاستقرار ونبذ ثقافة التخويف والتمزق والإقصاء والهدم.

7.      السعي لحقن دماء المتنازعين وصيانة أعراضهم وحفظ مُمتلكاتهم وأموالهم .

8.      التقليص من معدل الانفلات الأمني و النزاعات المسلحة على الأراضي الليبية .

 

شروط المصالحة

أن تسوية النزاعات عن طريق المصالحة الوطنية يتطلب توافر عدة شروط ، ولعل من أهم هذه الشروط الآتي:

1.      اتفاق و استعداد الأطراف المتنازعة العلني على اختيار طريق المصالحة والرضا بنتائجها.

2.      اللجوء إلى الهيئة العليا للمصالحة الوطنيةوقبول الأطراف المتنازعة بها كوسيط.

اعتبار قرار الهيئة العليا للمصالحة الوطنية بعد الاتفاق عليه من طرف المتنازعين حلا نهائيا لفض النزاع وله من القوة ما يجعله سندا قانونيا.

آليات تحقيق المصالحة الوطنية

لعل من أهم الآليات التي تتطلبها المصالحة الوطنية في هذا الشأن الآتي:

1.      الهيئة العليا للمصالحة الوطنية – وهي ألآلية الرئيسية للتسامح والتصالح وتُعرف بالهيئة العليا للمصالحة الوطنية. وهي لجنة مستقلة لها كل السلطات التي تحتاجها وبعيدة كل البعد عن سلطات الدولة و لا مانع من وجود التنوع الحزبي داخل الهيئة ، يجب أن تكون الهيئة قادرة علي أن تؤدي مهامها باستقلالية كاملة ودون توجيه أو تدخل من أي شخص أو سلطة في الدولة وان تملك صلاحيات تعادل صلاحيات السلطة القضائية .

2.      تشكل الهيئة العليا من هيئات فرعية عن كل مدينة ، ويختار أعضاء الهيئة الفرعية في كل مدينة من يمثل المدينة في الهيئة العليا .

3.      يتم تعيين أعضاء الهيئة من قِبل أعضاء المؤتمر الوطني العام لكل مدينة  علي أساس الكفاءة والنزاهة والمقدرة على إنجاز أهداف الهيئة.

 

سلطات الهيئة

1.      حق الإطلاع – بمعني يحق الهيئة الاطلاع على أية معلومات أو وثائق أو سجلات لها علاقة بأداء مهامها.

2.      حق الزيارة – بمعني يحق الهيئة زيارة أية مؤسسة أو مكان لإجراء تحقيقاتها.

3.      حق الاستجواب – بمعني يحق الهيئة استجواب أي شخصن مهما كان منصبه وطالما له علاقة بالأمر موضع التحقيق.

4.      حق عقد الجلسات – بمعني يحق الهيئة عقد جلسات استماع علنية ومفتوحة للجمهور علي أن يسمح للشخص ذي الصلة أن يقدم طلبا الهيئة بعقد الجلسات خلف أبواب مغلقة .

5.      حق العفو علي مرتكبي بعض الجرائم في حق الشعب – بمعني يحق الهيئة إصدار عفو علي من يستحقه. وهذا العفو لا يمكن تحقيقه إلا بعد توفر الشروط التالية:

‌أ.         أن يعترف المتهم أمام اللجنة بكل الحقيقة ولا يخفي منها شيئاً.

‌ب.     أن يكون المتهم قد اقترف الجرم بناء على أوامر من رؤسائه.

‌ج.      أن لا يكون الجرم صادرا ضد شخص معين ، وفي هذه الحالة يكون حق العفو للمتضرر  .

وهنا لابد من التأكيد بأن توفر هذه الشروط لا يعني بالضرورة اتخاذ القرار بالعفو بل يعني وجوب نظر الهيئة في مدى استحقاق الماثل أمامها لهذا العفو عن جريمته. وإن الهيئة لم تكن بصدد محاكمة الأشخاص وإنما العفو (أو عدمه) عن الجرائم فقط، فالمجرم يبقى مجرماً ولكنه لا يُلاحق قانونياً إذا حصل على العفو عن جريمته، وهذا هو ما يمكن تعريفه ب “مبدأ العفو العام.”

 

توصيات من اجل تحقيق مصلحة الوطن

1.      تجميع كافة الجهود الوطنية الفردية في مجال المصالحة من اجل العمل كهيئة واحدة  .

2.      تخصيص الميزانيات الملائمة لعمل الهيئة و دفع التعويضات وجبر الضرر .

3.      دعوة لليبيين لفتح صفحة جديدة وتناسي مآسي الماضي وتوفير كافة الوسائل المتاحة و الممكنة للقيام بذلك .

4.      التأكيد على ضرورة انضمام الثوار لأجهزة الدولة الشرعية.

5.      تسليم كافة السجون لأجهزة الدولة الشرعية ، و السماح لمنظمات حقوق الإنسان المحلية بإنشاء مكاتب دائمة داخل السجون من اجل متابعة الأوضاع داخلها لضمان عدم التعدي على حقوق الإنسان.

6.      دعوة النازحين بالخارج للعودة إلى ليبيا ، و ضمان المحاكمة العادلة لهم ممن أذنب في حق الشعب الليبي ، بالإضافة لضمان عدم التعدي على حقوقهم الإنسانية حتى تثبت إدانتهم أو براءتهم .

7.      البدء في أسرع وقت ممكن بالخطوات المبدئية من اجل قيام الهيئة العليا للمصالحة الوطنية ، و ذلك درئا ً لأي تدخل أجنبي من شأنه المساس بسيادة الدولة الليبية تحت بنود حماية حقوق الإنسان .

 

 اعداد للباحث/ محمد عمران أبوحجر

21 يونيو 2013   


ملاحظة :-

اعتمد الباحث في إعداد جزء كبير من هذه الورقة على مسودة مشروع للتصالح والمصالحة الوطنية للدكتور محمد بالروين ، منشورة على موقع ليبيا المستقبل الالكتروني  .


صحيفة ليبيا السلام

 

 

 

نبذة عن -

اترك تعليقا