حول مسودة قانون العزل السياسي :كثيرون حول السلطة ، وقليلون ينتمون للوطن
بتاريخ 26 يناير, 2013 في 12:20 مساءً | مصنفة في مقالات | تعليق واحد

أصبح واضحا ان -” مسودة قانون العزل السياسي “- الذى يُروّج له البعض ويُصّرون على استصداره عبر المؤتمر الوطني العام ، الغرض منه هو اجتثاث وعزل كل من عمل مع النظام السابق بل تعدّى الامر الى ابعد من ذلك وهو عزل واقصاء كل من أطال في عمر النظام ولو بصمته ! لا أدرى كيف يُجرّم الانسان على صمته ؟! وتوجّه له تهمة اطالة عمر النظام ! ونسي هؤلاء ان النظام المنهار كان مفروضا فرضا على كل الليبيين.. هؤلاء لم يعملوا مع- القذافي- في شخصه وانما عملوا في مؤسسات ودوائر الدولة الليبية ! .. هذا الاتهام الجائر هو تفتيش في النوايا وهذا لايجوزشرعا ولاقانونا ، ان تُحاسب الانسان على صمته ! او على نواياه ..!  وانا اسأل هؤلاء : هل الذين تجرمونهم على صمتهم  شققتم على صدورهم ؟! هل يُحق لكم ان تحكموا على ضمائر الناس وتعزلون بعضهم عن بعض ؟! .. فقد سمعت في قناة مصراته الفضائية في برنامج ” المقهى” احد المتحدثين يقول متشنجا :  ” ان قانون العزل السياسي يجب ان يطال حتى الذين صمتوا لأن صمتهم اطال في عمر النظام ” حتى القنوات الفضائية تحولت الى قنوات للثرثرة والترهات وتحول كثيرمن الليبيين الى ظاهرة صوتية   “محكونجيه ” ملّها الليبيون والليبيات ! كلهم ثوار وكل منهم يروى بطولاته ويحكي لنا حكاياته ..

 ان التخوين هو ارث ايديولوجي مقيت لنظام بائس ، وعودتنا الانظمة القامعة للحرية  ان يقسم فيها الشعب الى فئتين :” الشعب واعداء الشعب ” فان لم يكن ثمة اعداء حقيقيون للشعب فان النظام يبتكرهم ويخلق اعداء وهميين لاوجود لهم الا في ذهن الحاكم ! كل ذلك من اجل خوض معركة وهمية يكون فيهاالزعيم  او الحاكم الاوحد هو المنتصر فيها !.فهل معنى هذا ان الضحية قد ورثت عن الجلاد عاداته؟!.. فهل تحتاج النفوس ان تجلى مثلما تجلى المعادن القديمة ليزال عنها ما علق بها من صدأ وعلل ورواسب  الماضي البغيض ؟!.

ان الذين تجب ملاحقتهم  هم الذين  ( أوغلوا في دماء الليبيين أو نهبوا المال العام أو تسببّوا في فساد أو قتلوا أو حرّضوا على القتل والاغتصاب .. )  هل سيطال العزل السياسي كل من عمل في مؤسسات ودوائر النظام السابق حتى وان كان – فراشا أو غفيرا  أو موظفا صغيرا ؟؟

، هؤلاء أيضا عملوا في مؤسسات ودوائر النظام السابق بغض النظر عن تدني وضعهم المهني ، ألم يشارك هؤلاء في اطالة عمر النظام بأدائهم المتواضعو بصمتهم المتواصل ، اليست هذه ترهات؟!.

ألا يعلم هؤلاء الذين يُصرّون على استصدار قانون العزل السياسي ان مثل هذا القانون الاقصائي  الجائر الحق الدمار في دولة العراق حيث عُزل كل من حُسب على النظام العراقي من خلال عضويته في حزب البعث العراقي ففقدت دولة العراق الكوادر العلمية والمهنية والعسكرية والامنية واستخدم هذا القانون – قانون الاجتثاث – اداة اقصاء وابعاد في يد المستعمر وفي أيادي الذين جلبهم معه ليتسلموا زمام السلطة في العراق ! فكانت النتيجة ان القتل والخطف والتفجير عم كل ارجاء  العراق وفقد العراق امنه واستقراره رغم وجود قوات الاحتلال ووجود الشركات الأمنية المتعددة في طول البلاد وعرضها ، فكانت شوارع العراق تغمرها دماء العراقيين الابرياء وعزلت الحكومة نفسها في المنطقة الخضراء لا تبرحها !.وظل الشعب العراقي يراوح في ذات المكان !.وهذا مالا نريده ان يحدث في بلدنا ..

ألا يعلم هؤلاء الذين يُصرّون على استصدار هذا القانون؟، كيف واجه المصريون والنخب القانونية والسياسية قانون العزل السياسي الذى صنعه مجلس الشعب بين يوم وليلة ليحقق هدف سياسي يتمثل في ابعاد مرشحين لمنصب الرئاسة ؟، اذ يفترض في القانون ان يحكون مجردا وعاما لا يستهدف شخصا او اشخاصا بعينهم او ان يطبق باثر رجعي مخالفة للمواثيق الدولية فضلا على ان ” قانون العزل السياسي ” سواء الليبي او المصري استثناء وغير قانوني او دستوريواعتبروه منافيا للحرية ولحقوق الانسان ، فقضت المحكمة الدستورية المصرية العليا بعدم دستوريته !فهل ما جُرّب في مصر يجب ان يُجرّب عندنا ايضا ؟! .. الادهى والامر ان مشروع  ” قانون العزل السياسي ” عندنا اكثر صرامة و تشددا من مشروع ” قانون العزل السياسي” المصرى ويمكن للقراء ان يطلعوا على المشروعين ليحكموا بعدها !.

ان – قانون العزل السياسي – الذى يطالب به البعض يقضي بعزل واقصاء كل من عمل مع النظام السابق الذى انتهى بإسقاطه (!)  ويريد هؤلاء ان يُحسًسوًننا ان كل من عمل مع النظام السابق هم مُجرمون وقتلة وسفّاحون وسُرّاق ! بينما الواقع والحقيقة يقولان عكس ذلك تماما ، ليس كل من عمل مع النظام السابق ارتكب جرما او نهب المال العام او شارك في فساد او تسبّب فيه ، وليس من العدالة والمنطق بل انه من العسف ان نصدر حكما مطلقا ونجرم فئات كثيرة دون دليل جنائي قوى وقطعي يشكل برهانا قائما على المنطق والعقل  ! فهذا الاتهام لا يعدو عن كونه سوء ظن وصفه الرسول عليه السلام  بانه اكذب الحديث ، لأنه يؤدى الى الكذب والافتراء على المظنون به ، فقال عليه السلام : (اياكم والظن ، فان الظن اكذب الحديث ، ولا تجسسّواولا تحسّسوا ، ولاتحاسدوا ، ولاتدابروا ، وكونوا عباد الله اخوانا ) .. وقال تعالي في سورة الحجرات : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ).

 

هؤلاء الذين يُريدون تمرير – قانون العزل السياسي -  عبر المؤتمر الوطني العام  - الذين لا ندرى اين كانوا ابان الحكم السابق – سيخلقون ازمة وشقاقا في المجتمع ويزيدون من حدّة احتقانه اذا ما صدر هذا القانون ، لأنه اذا نظرنا الى الفئات التي عملت مع النظام السابق  والصامتون الذين سيُجرّمون على صمتهم بإطالة عمر النظام .. ان هذه الفئات من موظفين وعسكريين ورجال امن واعضاء هيئات تدريس ومهندسين واطباء بل من كافة التخصصات المهنية والعلمية الذين عملوا مع النظام السابق وحسبوا عليه يشكلون مع اسرهم وذوى قرابتهم مع شرائح اخرى مُهجّرة في الداخل الليبي وفي الخارج  ومن يتعاطف معهم لاشك انهم يشكلوننصف المجتمع الليبي او يزيد .. والسؤال الذى يفرض نفسه بقوة في هذا المقام : هل عندما قام الليبيون بانتفاضتهم في 17 فبراير كانوا بانتفاضتهم يستهدفون النظام ورموزه ام انهم  انتفضوا لكي يُخوّن بعضهم البعض ويقصي بعضهم البعض  ولكي يُقاتل بعضهم البعض ؟! هل – قانون العزل السياسي- سيساعد على المصالحة الوطنية بين الليبيين  وتجاوز تراكمات الماضي البغيض ؟! ام انهسيخلق شقاقا في المجتمع ويتسبب في حالة من التوتر والاحتقان ؟! الوضع الذى نحن فيه الآن لا يشجع على المصالحة الوطنية وفي غياب المصالحة الوطنية لن تكون هناك دولة ! ولن يكون هناك جيش او امن وطني ولن يكون هناك بناء واعادة اعمارولن يكون هناك امان واستقرار وسنظل نراوح في ذات المكان !  قليلون هم الذين قلوبهم على الوطن ! .. لماذا لاتتركز جهودنا لكشف القتلة الجناة الذين يخطفون ويُفجّرون  ويقتلون الناس امام بيوتهم وامام بيوت الله ويبثوّن الرّعب والهلع في النفوس ويُعرقلون بناء الدولة وتحقيق الامن والامان ! ثم يأتي هؤلاء ليشغلوننا بأمور اخرى تزيد من حدّة التوتر والاحتقان ولاتأتي بفائدة على المجتمع ! لماذا لانترك الشعب يقول كلمته عبر صناديق الانتخاب ، أليست هذه هي الديمقراطية التي ننشدها ؟  لماذا تنوبون عنه وتمارسون الوصاية عليه ام انه مُقدّرعلى هذا الشعب ان يتحرّر من وصاية ليجد نفسه تحت تسلّط وصاية اخرى ؟!  أليس في مقدور الشعب ان يتظاهر ويعزل من يريد عزله ؟ .. يبدو لي ان القضية ليست فقط التخلص أوعزل الذين عملوا مع النظام السابق خوفا من تقلدهم الوظائف او المناصب القيادية التي يلهث وراءها الكثيرون طمعا في السلطة وهو ما يستوجب ازاحة أي خبرات وكفاءات تزاحمهم ويمكن للدولة الليبية الاستفادة منها في مجالات وتخصصات عديدة باحتسابهم على النظام السابق ! وانماالفشل الذريع والاخفاق في كثير من المهام التي يتقلدها هؤلاء الذين ركبوا الثورة جعلهم يتنصّلون من المسئولية ويُلقون بها على الذين يعتبرونهم اتباع اللنظام السابق ويجعلون منهم فزّاعة وعُذرا يتعكزون عليه ومشذب يُعلقون عليه فشلهم واخفاقهم ! لم يعد خافيا على أحد ان بعض الكيانات السياسية هي وراء التحريض على استصدار هذا القانون لأغراض سياسية صرفة ! ..في الوقت ان ما يسمونهم بأتباع النظام السابق بعيدون كل البعد عن المشهد السياسي وخارج دائرة الفعل ! .. 

ثم ماذا عن قانون-” هيئة النزاهة والوطنية ؟ ، التي شبهّها البعض بمحاكم التفتيش في القرون الوسطى وشبهّها البعض الآخر – ” بلجان التطهير” – او ” بالادعاء الشعبي “؟؟

 الذى هو اداة في يد النظام السابق لإسقاط وإقصاء من لا يريدونه ،ماذا عن هذه الهيئة التي هي فوق المؤتمر الوطني العام وفوق رؤوس  كل الليبيين  من اتى بها وماذا عنها ؟ ألم تفِ بالغرض المطلوب حتى تدُعم بقانون ” العزل السياسي ” ؟  ثم لماذا هذه النزعات الاقصائية التخوينية التي يثيرها البعض سواء من داخل الكيانات السياسية او من خارجها ، لماذا لم تظهر اثناء معارك التحرير وقبل سقوط النظام ؟! لماذا تظهر الآن بهذه الحدّة والاصرار بعد سقوط النظام واعلان التحرير ام ان ماكنا نشاهده في تلك الاثناء بين الليبيين كان تآخيا مصطنعا مزيفا سرعان ما تكشّفت حقيقته فانقلب الليبيون على اعقابهم يُقاتل بعضهم البعض ويُخوّن بعضهم البعض ويُقصي بعضهم البعض ، ويُغلّبون الخاص على  العام ، والمغالبة بدل المشاركة في بناء الوطن !.

ان الذى يجب ان يفهمه هؤلاء الذين يتبنون فكرا اقصائيا تخوينيا ان الذين يستهدفونهم بفكرهم الاقصائي التخويني هم مُواطنون ليبيون لا يُحق لهم تخوينهم او الطعن في وطنيتهم أو ان يُوجّه لهم اتهاما لا يوجد نصا في القانون يُجرّمه  تأسيسا على انه لا جريمةولاعقوبة الا بنص ، هذا ما أوجبته ” القاعدة  القانونية ”  والتي ترجع اصولها الى ” الثورة الفرنسيةالتي عبرت عن آراء فلاسفة القرن الثامن عشر وتُعد سياجا للحرية الشخصية للأفراد والتي تنحصر في فعل ما يُبيحه القانون ، لافي فعل ما يُريده الفرد ، فقد وردت لأول مرة ضمن ما أعلنته الثورة الفرنسية من حقوق الانسان ..”  اما ” القاعدة الشرعية الاسلامية ” لابد وان تكون تحت عبارة : ” لا جريمة ولاعقوبة الا بدليل شرعي ! فالقاعدتان لاوجود لهما من خلال هذه الطرح الارتجالي الاقصائي التخويني  كما انه لا يجوز التوسّع في التفاسير او الاجتهادات او بقذف الاتهامات جُزافا بقصد الحاق الضرر بالأخرين وعدم تحميل الامور فوق ما تحتمل ! .. لا أحد يملك ان ينشئ جريمة من فعل لم يرد نص قانوني بتجريمه ، بمعنى انه لا يوجد نص قانوني في السابق يُجرّم من عمل في مؤسسات ودوائر النظام السابق ، لذلك فما لم يرد دليل بتجريمه فهو مُباح بحسب اصله طالما لا يخالف النظام العام او العرف او الدين ؟ ، وعليه ليس من حق هؤلاء الذين يُصرّون على استصدار قانون ” العزل السياسي ” ان يُشرّعوا للناس فيما يجوز لهم ولايجوز هذا اذا كان هؤلاء تعنيهم العدالة  بمفهومها الانساني السامي والشامل .

وثمة تساؤل اخير :

هل هذا القانون اذا ما اقرّه المؤتمر الوطني العام هل سيشمل الذين انشقوا عن النظام السابق وناصروا الثورة ؟،  ألا يشمل  ” قانون العزل السياسي ”  امين المؤتمر الوطني العام لكونه كان يشغل منصبا قياديا في النظام السابق ؟

ألم يكن رئيسا لديوان المحاسبة ثم سفيرا للنظام في الهند؟، ألا يشمل هذا القانون رئيس مجلس الوزراء المنتخب ألم يكن دبلوماسيا في النظام السابق ؟ ألا يشمل قانون العزل السياسي  رئيس المجلس الوطني الانتقالي ؟ ،الذى كان وزيرا للعدل ،ورئيس المكتب التنفيذي ما قبل التحرير ألم يكن وزيرا للتخطيط الم يكن الشهيد اللواء وزيرا للداخلية؟؟

ألم يكن مندوب ليبيا في منظمة الامم المتحدة وزيرا للخارجة في النظام السابق الذى سالت دموعه في مجلس الأمن على مرآي العالم كله جزعا على ليبيا وحبا لها  ؟، ألم يقل للقذافي  ( اترك الليبيين وشأنهم ) ألم يقل في منظمة الامم : ( ان القذافي يقول لليبيين : اما ان احكمكم او اقتلكم  ) فكانت الكلمة الصاعقة على النظام ؟ الم ينشق هؤلاء عن النظام وقادوا الثورة وناصروها  في احلك الظروف واحرج الاوقات ؟.

ثم هل   ” قانون العزل السياسي ” لا يتعارض مع   ” الميثاق العالمي لحقوق الانسان ” الذى  جاء في مادته الاولى : ( يُولد جميع الناس احرارا متساويين في الكرامة ، والحقوق .. ) وجاء في مادته الثانية : ( لكل انسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دون أي تمييز .. فضلا عما تقدم فلن يكون هناك ان تمييز اساسه الوضع السياسي ) ، وجاء في مادته الواحدة والعشرون الفقرة ثانيا : ( لكل شخص الحق الذى لغيره في تقلدالوظائف العامة في البلاد .. ) .

ان استصدار هذا القانون سيؤثر على الاستقرار السياسي في المرحلة الراهنة ويزيد من تحدياتها عكس ما يتصور او يُرّوج له البعض .. وسيجعل من ثورة 17 فبراير ثورة  انتقامية ثأرّية وتعدّى سافر على حقوق الانسان لكونه يخل بمبدأ المساواة في الحقوق ، وسيواجه معارضة حقوقية محلية و دولية !!.

بقلم / فتح الله ساسي

(مقتبسات    (*) لمهاتما غاندي)

 صحيفة ليبيا السلام

نبذة عن -

اترك تعليقا